[center]حب تحت الصفر
هو البحرُ.. يفصل بيني وبينَكِ..
والموجُ، والريحُ، والزمهريرْ.
هو الشِعْرُ.. يفصل بيني وبينكِ..
فانتبهي للسقوط الكبيرْ..
هو القَهْرُ.. يفصل بيني وبينكِ..
فالحبُّ يرفُضُ هذي العلاقَةَ
بين المرابي.. وبين الأجيرْ..
أحبُّكِ..
هذا احتمالٌ ضعيفٌ.. ضعيفْ
فكلُّ الكلام به مثلُ هذا الكلام السخيفْ
أحبُّكِ.. كنتُ أحبُّكِ.. ثم كرهتُكِ..
ثم عبدتُكِ.. ثم لعنتُكِ..
ثم كَتبتُكِ.. ثم محوتُكِ..
ثم لصقتُكِ.. ثم كسرتُكِ..
ثم صنعتُكِ.. ثم هدمتُكِ..
ثمَّ اعتبرتُكِ شمسَ الشموسِ.. وغيّرتُ رأيي.
فلا تعجبي لاختلاف فصولي
فكل الحدائقِ، فيها الربيعُ، وفيها الخريفْ..
هو الثلجُ بيني وبينكِ..
ماذا سنفعلُ؟
إنَّ الشتاءَ طويلٌ طويلْ
هو الشكُّ يقطعُ كلَّ الجُسُورِ
ويُقْفِلُ كلّ الدروبِ،
ويُغْرِقُ كلَّ النخيلْ
أحبّكِ!.
يا ليتني أستطيعُ استعادةَ
هذا الكلام الجميلْ.
أُحبُّكِ..
أين تُرى تذهبُ الكَلِماتْ؟
وكيف تجفُّ المشاعرُ والقُبُلاتْ
فما كان يمكنني قبل عامَيْنِ
أصبح ضرباً من المستحيلْ
وما كنتُ أكتبُهُ – تحت وهج الحرائقِ –
أصبحَ ضرباً من المستحيلْ..
3
إن الضبابَ كثيفٌ
وأنتِ أمامي.. ولستِ أمامي
ففي أي زاويةٍ يا تُرى تجلسينْ؟
أحاولُ لَمْسك من دون جدوى
فلا شفتاكِ يقينٌ.. ولا شفتايَ يقينْ
يداكِ جليديّتانِ.. زجاجيّتان.. محنّطتانِ..
وأوراقُ أيلولَ تسقُط ذاتَ الشمال وذاتَ اليمينْ
ووجهُكِ يسقط في البحر شيئاً فشيئاً
كنصف هلالٍ حزينْ..
4
تموتُ القصيدةُ من شدَّة البَرْدِ..
من قِلّة الفحم والزيْتِ..
تيبَسُ في القلب كلُّ زهور الحنينْ
فكيف سأقرأ شعري عليكِ؟
وأنتِ تنامينَ تحت غطاءٍ من الثلجِ..
لا تقرأينَ.. ولا تسمعينْ..
وكيف سأتلو صلاتي؟
إذا كنتِ بالشعر لا تؤمنينْ..
وكيف أقدّمُ للكلمات اعتذاري؟
وكيف أُدافعُ عن زمن الياسمينْ؟
5
جبالٌ من الملح.. تفصل بيني وبينكِ..
كيف سأكسر هذا الجليدْ؟
وبين سريرٍ يريدُ اعتقالي..
وبين ضفيرة شعرٍ تكبِّلني بالحديدْ؟
6
أحبُّكِ.. كنت أُحبُّكِ حتى التَنَاثُرِ.. حتى التبعثُرْ..
حتى التبخّرِ.. حتى اقتحامِ الكواكبِ، حتى
ارتكابِ القصيدة،
أُحبُّكِ.. كنتُ قديماً أحبّكِ..
لكنَّ عينيكِ لا تأتيانِ بأيِّ كلامٍ جديدْ
أُحبُّكِ.. يا ليتني أستطيع الدخولَ لوقت البنفسج،
لكنَّ فصلَ الربيع بعيدْ..
ويا ليتني أستطيع الدخولَ لوقت القصيدة،
لكنَّ فصلَ الجنون انتهى من زمانٍ بعيد.
لكنَّ عينيكِ لا تأتيانِ بأيِّ كلامٍ جديدْ
أُحبُّكِ.. يا ليتني أستطيع الدخولَ لوقت البنفسج،
لكنَّ فصلَ الربيع بعيدْ..
ويا ليتني أستطيع الدخولَ لوقت القصيدة،
لكنَّ فصلَ الجنون انتهى من زمانٍ بعيد.
قبل ان بعد ان
قبل أن أحبّكِ..
كنتُ متصالحاً مع اللغَهْ
ألعبُ لها، بمهارة ساحرٍ محترفْ
وأحرِّك خيوطَها..
كما يحرِّك طفلٌ طيارةً من ورقْ
كنتُ أميرَ الطير.. وسيِّد المُغنّينْ
وكنتُ إذا سرتُ في الغابَهْ
تركض خلفي الأرانبْ..
وتتبعني الأشجارْ
وتكلمني الضفادعُ النهريّهْ
وتنزلُ النجومُ من شُرُفاتها
لتنامَ على كَتِفي..
قبل أن أحبّكِ..
كانت إقطاعاتي الأدبيَّهْ
لا تغيبُ عنها الشمسْ
ومملكتي الشعريَّهْ
تمتدُّ من الماء إلى الماءْ
ومن النساءِ.. إلى النساءْ
وكانت الشفةُ التي لا أكتب عنها
تتحوّلُ إلى وردةٍ من وَرَقْ..
وكان النهدُ الذي لا يبايعني
ملكاً مدى الحياهْ
يُعتبر نهداً أميّاً.. ورجْعياً
وتسقطُ عنه حقوقُه المدنيّهْ..
3
كان يختبئُ في حنجرتي عشُّ عصافيرْ
ويعزفُ في دمي
ألفُ تشايكوفسكي..
وألفُ رحمانينوفْ
وألفُ سيّد درويشْ
كانت الأبجديّةُ صديقتي
وكانت الثمانيةُ وعشرونَ حرفاً
تكفي لبوحي، واعترافاتي
وتتبعني كقطيعٍ من الغزلانْ
تأكُلُ العشبَ من يدي
وتشربُ الماءَ من يدي..
وتتعلَّمُ أصولَ الحبّ على يدي..
4
قبل أن أحبّكِ..
وأحلامي على قَدِّي
وحزني.. وفَرَحي.. وجنوني
على قَدِّي..
وحين جاء الحبّ الكبيرْ
بدأ المأزِقُ الكبيرْ
وتمزّقتْ خرائطُ اللغَهْ
وصارَ كلُّ ما أعرفه من كلامٍ جميلْ
لا يكفي لتغطية عَشْر دقائقَ من الحنينْ
عندما أدعوكِ للعشاءْ..
5
قبل أن تصبحي حبيبتي
كنتُ أضطجعُ على سرير اللغَهْ
أتغزّلُ بالكلمة التي أريدْ
وأتزوّجُ المُفْرَدَةَ التي أريدْ
لم يكنْ عندي مشكلةٌ مع اللغَهْ
كنتُ مسكوناً بالرنين كأرغُنِ كنيسَهْ
وكنتُ أهدل كالحمائمْ
وأصدح كطيور الكناري
وألبس اللغةَ في إصبعي
خاتماً من الزمرّد الأخضرْ..
6
بعد أن صرتِ حبيبتي
أضعتُ ذاكرتي اللغويّةَ نهائياً
ونسيتُ كيف تُهجَّى الحروف.. وكيف تُكْتَبْ..
إلا إسمَكِ..
ولم أعُدْ أتذكر من الأصوات..
إلا صوتَكِ...
ولا أتذكّر من موانئ البحر الأبيض المتوسّطْ
سوى عينيكِ المكتظتينِ..
بالحزنِ..
والكُحْلِ..
وطيورِ النَوْرَسْ...
7
بعدَ.. أن دخَلَ سيفُكِ في لحمي
ولحم ثقافتي
إكتشفتُ أن مساحةَ الفن تضيقْ
كلما اتَّسعتْ مساحةُ العشقْ
سقطتْ من التداولْ
كعملةٍ ورقية ليس لها تغطيَهْ
وأن جميعَ ما أعرفه من مفرداتْ
لا يكفي لتسديد ثمن فنجانيْ قهوَهْ
في أحد مقاهي فينيسيا.. أو كومو..
أو فيينا.. أو لوغانو..
أو بيروتْ..
8
يا التي تعتقلني في داخل قصائدي
وتتحكم بمفاتيح حنجرتي
ومقامات صوتي..
لم يعد يكفيني أن أقولَ (أُحبّكِ)
أريد أن أصل معكِ إلى مرحلة ما بَعْدَ اللغَهْ
وسُحَيْم..
وعُرْوَةِ بنِ الوردْ
والرمزيين، والبرناسيين، والسرياليينْ...
فيا سيّدتي، التي أخذت في حقيبتها اللغهْ..
وسافرتْ...
لماذا أطلقتِ الرصاصَ على فمي؟
وأرجعتنِي إلى مرحلة التَأْتأَهْ....
وسُحَيْم..
وعُرْوَةِ بنِ الوردْ
والرمزيين، والبرناسيين، والسرياليينْ...
فيا سيّدتي، التي أخذت في حقيبتها اللغهْ..
وسافرتْ...
لماذا أطلقتِ الرصاصَ على فمي؟
وأرجعتنِي إلى مرحلة التَأْتأَهْ...
الوضوءُ بماءِ العْشق والياسمينْ (1)
ينطلقُ صوتي، هذه المرة، من دمشقْ.
ينطلقُ من بيت أُمّي وأبي.
في الشام. تتغيَّرُ جغرافيّةُ جَسَدي.
تُصْبح كُريَّاتُ دمي خضراءْ.
وأبجديتي خضراءْ.
في الشام. ينبتُ لفمي فمٌ جديدْ
وينبُتُ لصوتي، صوتٌ جديدْ
وتصبحُ أصابعي،
قبيلةً من الأصابعْ.
أعودُ إلى دمشقْ
ممتطياً صَهْوَةَ سَحَابَهْ
ممتطياً أجملَ حصانينِ في الدنيا
حصانِ العِشْقْ.
وحصانِ الشِعْرْ ..
أعودُ بعد ستّينَ عاماً
لأبحثَ عن حبل مشيمتي ،
وعن الحلاق الدمشقيّ الذي خَتَنَنِي ،
وعن القابلة التي رَمَتْني في طَسْتٍ تحت السريرْ
وقبضتْ من أبي ليرةً ذهبيَّة
وخرجت من بيتنا ..
في ذلك اليوم من شهر آذار عام 1923
ويَدَاها مُلَطَّخَتانِ بدم القصيدَهْ ....
3
من جهة (باب البريدْ).
حاملاً معي ،
عَشْرَةَ أطنانٍ من مكاتيبِ الهَوَى
كنتُ قد أرسلتُها في القرن الأوّلِ للهُجْرَة
ولكنها لم تصِلْ إلى عُنْوانِ الحبيبْ
أو فَرَمَها مِقصُّ الرقيبْ ..
لذلك.. قرَّرتُ أن أحمل بريدي على كتفي
لعلَّ التي أحببتُها ..
وهي تلميذةٌ في المدرسة الثانويَّة
قبل خمسةَ عشرَ قرناً
لا تزال ترسُبُ في امتحاناتها
تضامناً مع ليلى العامريَّهْ
ومريمَ المجدليَّهْ
ورابعةَ العدويَّةْ
وكلِّ المعذَّبات في الحبِّ .. في هذا العالم الثالثْ.
أو لعلَّ الرقيبَ الذي كان يغتالُ رسائلي
قد نقلوهُ إلى مصلحة تسجيل السيَّارات
أو أدخلوه إلى مدرسةٍ لمحْوِ الأميَّةْ
أو تزوَّجَ ممَّنْ كانَ يقرأ لها رسائلي
منتحلاً إسْمي..
وإمضائي ..
وجُرْأةَ قصائدي ..
4
أعودُ إلى الرَحِمِ الذي تشكّلتُ فيه..
وإلى المرأةِ الأولى التي علَّمَتْني
جُغْرَافِيَّةَ الحُبّْ ..
وجُغْرَافيّةَ النساءْ..
أعودُ..
بعدما تناثَرَتْ أجزائي في كل القاراتْ
وتناثر سُعالي في كل الفنادق
فبعد شراشفِ أمي المعطرة بصابون الغارْ
لم أجد سريراً أنام عليه..
وبعدَ عَرُوسة الزيت والزعترْ ..
التي كانت تلفُّها لي،
لم تعدْ تُعجبني أيُّ عروسٍ في الدنيا..
وبَعْدَ مُربَّى السَفَرجَل الذي كانت تصنعه بيدَيْها
لم أعدْ متحمساً لإفطار الصباحْ
وبعد شراب التُوتِ الذي كانت تعصرُهُ
لم يَعُدْ يُسْكِرُني أي نبيذْ ...
5
أدخل صحنَ الجامع الأمويّْ
أُسلِّمُ على كلِّ من فيهْ
بَلاطةً .. بلاطهْ
حمامةً .. حمامَهْ
أتجولُ في بساتين الخطِّ الكُوفيّْ
وأقطفُ أزهاراً جميلةً من كلام اللهْ ...
وأسمعُ بعينيَّ صوتَ الفُسَيْفُسَاءْ ..
وموسيقى مسابح العقيقْ ..
تأخذني حالةٌ من التجلِّي والإنخِطَافْ ،
فأصعدُ دَرَجاتِ أوَّلِ مئذنةٍ تُصادِفُني
مُنَادياً:
" حَيَّ على الياسمينْ ".
"حيَّ على الياسمينْ ".
6
عائدٌ إليكمْ ..
وأنا مضرَّجٌ بأمطار حنيني
عائدٌ .. لأملأَ جُيُوبي
عائدٌ إلى مَحَارَتي .
عائدٌ إلى سرير ولادتي.
فلا نوافيرُ فرسايْ
عوَّضتْني عن (مقهى النوفَرَهْ)..
ولا سُوقُ الهال في باريس
عوَّضَني عن (سوق الجُمْعَهْ) ..
ولا قصرُ باكِنْغهَامْ في لندنْ
عوَّضَني عن (قصر العَظمْ)..
ولا حمائم ساحة (سان ماركو) في فينيسيا
أكثرُ بَرَكةً من حَمَائم الجامع الأمويّْ
ولا قبرُ نابوليون في الأنفاليدْ
أكثرُ جلالاً من قبر صلاح الدين الأيُّوبي ..
قد يتَّهِمُني البعض ..
بأنني عدتُ إلى السباحة في بحار الرومانسيَّةْ
إنني لا أرفضُ التُهْمةْ .
فكما للأسماكِ مياهُها الإقليميةْ
فإن للقصائد أيضاً مياهها الإقليميةْ .
وأنا ـ كأيِّ سَمَكةٍ تكتبُ شِعْراً ـ
لا أريدُ أن أموتَ اخْتِنَاقاً ....
7
أتجوَّلُ في حارات دمشقَ الضَيِّقةْ .
تستيقظُ العيونُ العسليَّةُ ، خلفَ الشبابيكْ
وتُسلِّمُ عليّْ ..
تلبسُ النجوم أساورها الذهبيةْ ..
تحطُّ الحمائمُ من أبْراجها ..
وتُسلِّمُ عليّْ ..
تخرجُ لي القِطَطُ الشاميَّةُ النظيفَهْ
التي وُلِدَتْ مَعَنا ..
وراهقتْ معنا ..
وتزوَّجتْ مَعَنا ..
لتُسَلِّمَ عليّْ ...
تضعُ قليلاً من الماكياج على وجهها ..
شأن كلِّ النساءْ ..
تصنعُ لي قهوةً طيِّبَهْ .
وتُعَرِّفُني على أولادها .. وأصْهارِها .. وأحفادها ..
وتخبرني أن أكبر أولادها ..
سيتخرجُ هذا العامَ ، طبيباً من جامعة دمشقْ
وأن أصغرَ بناتها تزوَّجتْ من أميرٍ عربيّ
وسافَرَتْ معهُ إلى الخليجْ ..
تكرُجُ الدَمْعَةُ في عيني ..
وأَستأذِنُ بالإنصرافْ ..
وأنا مطمَئِنٌّ على شجرة العائلَةْ
ومُسْتَقْبَلِ السُلالاتْ ...
8
أتَغَلْغَلُ في ( سُوق البُزُوريَّةْ )
مُبْحِراً في سُحُب البَهَارْ
وغمائمِ القرنفُلِ ..
والقِرفةِ ..
واليانسُونْ ..
وبماء العِشْقِ مرَّاتْ ..
وأنسى ـ وأنا في سُوق العطَّارينْ
جميع مستحضرات (نينا ريتشي ) ..
و (كُوكُو شانيلْ ) ...
ماذا تفعل بي دمشقْ ؟
كيف تغيِّرُ ثقافتي ، وذوقي الجماليّْ ؟
فَيُنْسيني رنينُ طاساتِ (عرقِ السُوسْ)
كونْشِرتُو البيانو لرحْمَا نينوفْ ..
كيف تُغيِّرني بساتين الشامْ ؟
فأصبحُ أولَ عازفٍ في الدنيا
يقودُ أوركِسترا
من شجر الصفصافْ!!
9
جئتُكُمْ ..
من تاريخ الوردةِ الدمشقيّةْ
التي تختصرُ تاريخَ العطرْ ..
ومن ذاكرة المُتَنبِّي
التي تختصرُ تاريخَ الشِّعرْ ..
جئتكمْ..
والأَضاليا ..
والنَرْجِسِ الظريفْ
التي علَّمتني أول الرسمْْ ....
جئتكم..
من ضِحْكَة النساءِ الشاميَّاتْ
التي علَّمتني أول المُوسيقى ...
وأول المراهقةْ ..
ومن مزاريبِ حَارَتِنا
التي علَّمَتْني أول البكاءْ
ومن سجادة صلاة أمي
التي علمتني
أول الطريق إلى الله ....
10
أفتحُ جوارير الذاكرهْ
واحداً .. واحداً ..
أتذكَّرُ أبي ..
خارجاً من معمله في (زُقاق معاويَهْ)
كأنه غَمَامةٌ من عطر الفانيليا ..
أتذكر عربات الخيلْ ..
وبائعي الصَبَّارَةْ ..
التي تكاد ـ بعد بَطْحَةِ العرقِ الخامسَةْ ـ
أن تسقطَ في النهرْ ...
أتذكر المناشفَ الملوَّنَهْ
وهي ترقُصُ على باب (حمَّام الخياطينْ)
كأنها تحتفل بعيدها القوميّْ .
أتذكرُ البيوتَ الدمشقيَّةْ
بمقابض أبوابها النحاسيةْ
وسُقوفها المُطرَّزةِ بالقَيْشَاني
وباحاتها الجُوَّانيةْ
التي تذَكِّرُكَ بأوصاف الجنةْ ....
11
البيت الدمشقيّْ
خارجٌ على نصِّ الفَنِّ المعماريّْ .
هندسةُ البيوت عندنا ..
تقومُ على أساسٍ عاطفيّْ
فكلُّ بيتٍ .. يسندُ خاصرةَ البيت الآخرْ
وكلُّ شُرفةْ ..
تمُدُّ يدها للشرفة المقابلهْ ..
البيوتُ الدمشقيّةُ بيوتٌ عَاشِقَةْ ...
وتتبادلُ الزياراتِ ..
ـ في السِرِّ ـ ليلاً ....
12
عندما كنتُ دبلوماسيّاً في بريطانيا
قبلَ ثلاثينَ عاماً .
كانت أميّ ترسل لي في مطلع الربيعْ
في داخل كلِّ رسالَةْ ..
حُزْمَةَ (طَرْخُونْ) ...
وعندما ارتابَ الإنجليزُ في رسائلي
أخَذُوها إلى المخْتَبَرْ ..
وَوَضعُوهَا تحت أشعَّةِ الليزِرْ
وأحالوها إلى سكوتلانديارد ..
وعندما تَعِبُوا منّي .. ومن (طَرْخُوني) ..
سألوني : قل لنا بحقِّ اللهْ ...
ما اسمُ هذه العُشْبَةِ السحرية التي دَوَّخَتْنَا ؟.
هل هي تعويذة ؟
أم هي دواءْ
أم هي شفْرةٌ سِريَّة ؟
وماذا يقابلُها باللغة الإنجليزيَّة ؟ ...
قلتُ لهم: صعبٌ أن أشرحَ لكم الأمرْ ..
(فالطرخُونْ) لغةٌ تتكلَّمُها بساتين الشام فقط ..
وهو عُشْبَتُنا المُقدَّسَةْ ..
وبلاغتُنَا المعطَّرةْ ..
ولو عرف شاعركم العظيم شكسبير (الطرخونْ)
لكانت مسرحياتهُ أفضلْ ..
وباختصارْ..
إنَّ أمي امرأةٌ طيبّةٌ جداً .. وتُحِبُّني جداً ..
وعندما كانت تشتاقُ لي ..
كانت تُرْسِلُ لي باقةَ (طرخُونْ)..
(فالطرخونُ) عندها، هو المعادل العاطفيّ
لكلمة (يا حبيبي) ...
أو لكلمة ( تقبرني)..
وعندما لم يفهم الإنجليز حرفاً واحداً من مُرَافَعتي الشعريةْ ...
أعادوا لي (طَرْخُوني) .... وأغلقوا محضرَ التحقيقْ ....
13
عائدٌ إليكمْ ..
من آخِرِ فضاءات الحُريَّةْ
وآخِرِ فَضَاءاتِ الجُنُونْ.
في قلبي ..
شيءٌ من أحزان أبي فراس الحَمَدانيّْ
وفي عينيَّ ..
قَبَسٌ من حرائق ديكِ الجِنِّ الحمصيّْ
مُشْكِلَتي ..
أن الشعر عندي هو بَرْقٌ لا عقلَ له.
وزلزالٌ ..
رُبما ركبتُ حصانَ الشعرْ ..
برعونةٍ .. ونَزَقْ ..
ولكنني .. لم أُغَيِّر سُرُوجي
ولم أشتغلْ سائساً بالأُجرهْ ..
أو شاعراً بالأُجرَهْ ..
صحيحٌ .. أنني ربحتُ أكثر من سِبَاقْ
وحصلتُ على مداليَّاتٍ ذهبيةٍ كثيرةْ
وصحيحٌ .. أن الشعبَ العربيّْ ..
طوَّقني بأكاليل الغارْ..
إلا أن أحزاني ..
كانت دائماً طويلةً كسنابل القمحْ ..
فلقد كُسِرَتْ ساقي ألف مرهْ ..
وكُسِرتْ رقبتي ألفَ مرَّهْ ..
وكُسِرَ عَمُودي الفقريُّ ، مليونَ مرهْ
وإذا كنتُ أقِفُ أمامكمْ على المنبرْ
وأنا بكامل لياقتي الجَسَديَّةْ ..
فلأنَّني ..
أقفُ على عظام كِبْريَائي ....
14
مِنْ (خان أسعد باشا)
يخرجُ أبو خليل القباني
بقُنْبازِهِ الدَامَسْكُو ..
وعمامَتِهِ المُقَصَّبَهْ ..
وعينيهِ المسْكُونتينِ بالأسئلَهْ ..
كعَيْنَيْ (هامْلِتْ) ...
يحاولُ أن يُقدِّمَ مسرحاً طليعياً
فيطالبونَهُ بخيمة قَرَه كُوزْ ..
يحاولُ أن يقدِّمَ نصَّاً من شكسبيرْ
فيسألونَهُ عن أخبار الزيرْ ...
يحاول، أن يجد صوتاً نسائياً واحداً
(يا مالْ الشامْ يا شامي)..
فيُخَرْطِشُونَ بواريدهُمْ العُثمانيَّةْ
ويُطلقونَ النار على كل شجرةِ وردْ..
تحترفُ الغِناءْ ...
يحاولُ أن يجد امرأةً واحدَهْ ..
تردِّدُ وراءَهُ :
(يا طيرَهْ طيري يا حمامَهْ)..
فيستلُّونَ سكاكينَهُمْ
ويذبحون كل سلالات الحمام..
وكل سلالات النساءْ ...
بعد مئةِ عامْ...
إعتذرتْ دمشقُ لأبي خليل القبَّاني
وشيَّدتْ مسرحاً جميلاً باسْمِهْ
وصارت أغنية (يا مال الشامْ، يا شامي)
نشيداً ، رسمياً مُقرَّراً
على كلِّ مدارس الإناث في سوريَّهْ ....
15
ألبِسُ جُبَّةِ محي الدين بن عَرَبيّْ
وأهبطُ من قِمّة جَبَلِ قاسيونْ
حاملاً لأطفال المدينةْ ..
خَوْخا ..
ورُمّاناً ..
وحلاوةً سِمْسِمِيَّهْ ..
ولنسائها ..
أطواقَ الفيروزْ ..
وقصائد الحبّْ ...
أدخلُ ..
في نَفَقٍ طويلٍ من العصافيرْ ..
والمنثورْ..
والياسمينِ العراتليّْ ..
أدخُلُ في أسئلة العطرْ..
تضيعُ منّي حقيبتي المدرسيةْ
والسَفرْطاسُ النحاسيّْ
الذي كنتُ أحملُ فيه طعامي ..
والخَرَزَةُ الزَرْقاءْ ..
التي كانتْ تُعلِّقُها أُمّي في صدري .
فيا أهْلَ الشامْ..
مَنْ وجدني منكمْ.. فليرُدَّني إلى (أم المعتزّ)
وثوابه عند الله ..
أنا عصفوركم الأخضر.. يا أهل الشامْ
فمن وجدني منكمْ.. فليُطْعِمْني حبة قمحْ ..
أنا وردتُكُمْ الدمشقيَّةُ .. يا أهل الشامْ
فمنْ وجدني منكُمْ ، فلْيَضَعْني في أول مِزْهريَّهْ
أنا شاعركمْ المجنونُ .. يا أهل الشامْ
فمن رآني منكمْ .. فليَلْتَقِطْ لي صورةً تذكاريةْ
قبل أن أشفى من جنوني الجميل ..
أنا قمركمُ المشردُ .. يا أهل الشامْ
فمن رآني منكمْ ..
فليتبرَّعْ لي بفراشٍ .. وبطانيةِ صوفْ ..
لأنني لم أنمْ منذُ قُرُونْ ...
فيا أهْلَ الشامْ..
مَنْ وجدني منكمْ.. فليرُدَّني إلى (أم المعتزّ)
وثوابه عند الله ..
أنا عصفوركم الأخضر.. يا أهل الشامْ
فمن وجدني منكمْ.. فليُطْعِمْني حبة قمحْ ..
أنا وردتُكُمْ الدمشقيَّةُ .. يا أهل الشامْ
فمنْ وجدني منكُمْ ، فلْيَضَعْني في أول مِزْهريَّهْ
أنا شاعركمْ المجنونُ .. يا أهل الشامْ
فمن رآني منكمْ .. فليَلْتَقِطْ لي صورةً تذكاريةْ
قبل أن أشفى من جنوني الجميل ..
أنا قمركمُ المشردُ .. يا أهل الشامْ
فمن رآني منكمْ ..
فليتبرَّعْ لي بفراشٍ .. وبطانيةِ صوفْ ..
لأنني لم أنمْ منذُ قُرُونْ .
[/center]